وبعض الأحيان يقول بعضهم: لقد قالها لي أمام الناس، سبحان الله! نحن نقول: إن الداعي يجب أن يكون حكيماً، ولا يقول كلاماً إلا في موضعه، ولكن افرض أن واحداً قال لك أمام الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا؛ ألست عبداً لله؟ ألست من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقل: سمعاً وطاعة، أوليس في نظام أهل الدنيا -ولا سيما إن كانوا عسكريين أو ما أشبه ذلك- أنه إذا بلغك الأمر فإنك لا تقول للمبلغ: لماذا تبلغني أمر القائد أمام الناس؟ وإنما يذكر لك ذلك في أي مكان، ولا تحتج، ولا تعترض، ونحن مع ذلك نقول: ينبغي للداعية أن يتخير ويتحين متى يدعو، متى يتكلم، لكن كلنا عبيد لله عز وجل، فإذا قال لنا قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؛ فلا نبطر الحق، ولا نستكبر عنه، بل على الواحد منا أن يقول: سمعاً وطاعة، ويشكر له، ويحبه، ويفرح به، ويسأل الله عز وجل أن يكثر من أمثاله؛ لأنه إذا وجد في الأمة من يقول الحق ولا يتهيب، ولا يخاف؛ فهذه الأمة مآلها إلى خير، وهذا دليل على أن الأمة سليمة معافاة.
وأما أن يستكبر على ذلك فهذه المشكلة خطيرة، وهي دليل على مرض خطير وعظيم في القلوب وهو الاستكبار على الحق، والاستنكاف أن يكون عبداً لله، والله تعالى يقول: (( لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ))[النساء:172]، وهكذا حال الذين فضلهم الله تعالى وميزهم أنهم لا يستنكفون أبداً، بل يفرحون بأن يدخلوا تحت اسم العبودية، وكلما كانت العبودية أكثر كانت الرتبة أعلى.
ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم المنة في الميزة، والشرف الذي لم يشاركه فيه أحد من الأنبياء قط، ولا من البشر، وهو: الإسراء، ثم المعراج إليه، فقال: (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ))[الإسراء:1]، ولم يقل برسوله، ولا بنبيه، وإنما قال بعبده؛ لأن هذا الاختصاص -كما قد تقدم- يعني: الذي بلغ الكمال في العبودية، فكأنه إذا قيل له سبحانه: من عبدك؟ قال: عبدي محمد صلى الله عليه وسلم، أي: الذي بلغ الغاية والكمال، ويستحق الاسم من غير قيد.
فهذه العبودية فخر، وهي شرف، ففي مقام الشرف والامتنان يأتي وصف العبودية، وكذلك في مقام الوحي: (( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ))[النجم:10]، فأي شرف أعظم من هذا!
فالذي يأنف ويستنكف ويستكبر إذا قيل له: اتق الله، وتأخذه العزة بالإثم، كما قال الله تعالى: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ))[البقرة:206]؛ فهذا داخل في هذا النوع والعياذ بالله، وهو ينازع الله تبارك وتعالى في صفة من أخص صفاته وهي الكبرياء، فالكبرياء رداءه عز وجل، لذلك فمن نازع الله تعالى في الكبر -واسمه المتكبر- فلا يدخل الجنة، بل ومن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فإنه كذلك، ويحشر هؤلاء المتكبرون في الآخرة كأمثال الذر، فهم على هيئة الرجال ولكنهم كأمثال الذر، يطأهم الناس في المحشر؛ عقوبة لهم.